فصل: ثم دخلت سنة إحدى وسبعين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر عصيان الجراجمة بالشام

لما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج أيضًا قائدً من قواد الضواحي في جبل اللكام واتبعه خلق كثير من الجراجمة والأنباط وأباق عبيد المسلمين وغيرهم ثم سار إلى لبنان فلما فرغ عبد الملك من عمر أرسل إلى هذا الخارج عليه فبذل له كل جمعة ألف دينار فركن إلى

ذلك ولم يفسد في البلاد ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر فتلطف حتى وصل إليه متنكرًا فأظهر له ممالأته وذم عبد المكل وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح‏.‏ فوثق به‏.‏

ثم أن سحيمًا عطف عليه وعلى أصحابه بوهم غارون غافلون بجيش مع موالي عبد الملك وبني أمية وجند من ثقات جنده وشجعانهم كان أعدهم بمكان خفي قريب وأمر فنودي‏:‏ من أتانا من العبيد يعني الذين كانوا معه فقتل الخارج ومن أعانه من الروم وقتل نفر من الجراجمة والأنباط ونادى المنادي بالأمان فيمن لقي منهم فتفرقوا في قراهم وسد الخلل وعاد إلى عبد الملك ووفي للعبيد ذكر عدة حوادث في هذه السنة قتل زهير بن قيس أمير إريقية وقد ذكرنا ذلك سنة اثنتين وستين وفيها حكم رجل من الخوارج بمنى وسل سيفه وكانوا جماعة فأمسك الله أيديهم فقتل ذلك الرجل عند الجمرة‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان على البصرة والكوفة له أخوه مصعب وعلى قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى خراسان عبد الله بن

وفيها توفي أبو الدؤلي زله خمس وثمانون سنة‏.‏

  ثم دخلت سنة سبعين

في هذه السنة اجتمعت الروم واستجاشوا على من بالشام فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي إليه كل جمعة ألف دينار خوفًا منه على المسلمين‏.‏

وفيها شخص مصعب إلى مكة في قول بعضهم ومعه أموال كثيرة ودواب كثيرة قسمها في قومه وغيرهم ونهض ونحر بدنًا كثيرة‏.‏

وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم‏.‏

  ذكر يوم الجفرة

وفي هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعبًا فقال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد‏:‏ إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلًا يسيرة رجوت أن أغلب لك علها‏.‏

فوجهه عبد الملك فقدمها مستخفيًا في خاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع وقيل‏:‏ نزل على علي بن أصمع الباهلي فأرسل عمرو إلى عباد بن الحصين وهو على شرطة ابن معمر وكان مصعب قد استخلفه على البصرة ورجا ابن أصمع أن يبايعه عباد بن الحصين وقال له‏:‏ إني قد أجرت خالدًا وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهرًا لي‏.‏

فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه فقال عباد‏:‏ قل له والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل‏.‏

فقال ابن أصمع لخاد‏:‏ إن عبادًا يأتينا الساعة ولا أقدر أن أمنعك عنه فعليك بالمالك بن مسمع‏.‏

فخرج خالد يركض وقد أخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالكًا فقال‏:‏ أجرني فأجاره وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد فكل أول راية أتته راية بني يشكر وأقبل عباد في الخيل فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال‏.‏

فلما كان الغد عدوا إلى جفرة نافع بن الحارث ومع خالد رجال من تميم منهم‏:‏ صعصعة بن معاوية وعدب العزيز بن بشر ومرة بن محكان وغيرهم وكان أصحاب خالد‏:‏ جفرية ينتسبون إلى الجفرة وأصحاب ابن معمر زبيرية وكان من أصحاب خالد‏:‏ عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان والمغيرة بن المهلب ومن الزبيرية‏:‏ قيس بن الهيثم السلمي‏.‏

ووجه مصعب زحر بن قيس الجعفي مدداّ لا بن مهمر في ألف ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مددًا لخالد‏.‏

فأرسل عبيد الله إلى البصرة من يأتيه بالخير فعاد إليه فأخبره بتفرق القوم فرجع إلى عبد الملك‏.‏

فاقتلوا أربعة وعشرين يومًا وأصيبت عين مالك بن مسمع وضجر من الحرب ومشت بينهم السفراء فاصطلحوا على أن يخرج خالد من البصرة فأخرجه ثم لحق مالك بثأج وكان عبد الملك قدر جع إلى دمشق فلم يكن لمعصب همة إلا البصرة وطمع أن يدرك بها خالدًا فوجده قد خرج وسخط مصعب على ابن معمر وأحضر أصحاب خالد فشتمهم وسبهم فقال لعبيد الله بن أبي بكرة‏:‏ يا ابن مسروح إنما أنت أبن كلبة تعاورها الكلاب فجاءت بأحمر وأصفر وأسود من كل كلب بما يشبهه وإنما كان أبوك عبدًا نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ثم ادعيتم أن أبا سفيان زنى بأمكم ووالله لئن بقيت لأ لحقنكم بنسبكم‏.‏

ثم دعا حمران فقال له‏:‏ إما أنت ابن يهويدة علج نبطي سبيت من عين التمر‏.‏

وقال للحكم بن المنذر بن الجارود ولعبد الله بن فضالة الزهراني ولعلي بن أصمع ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع وضربهم مائةً مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم وهدم دورهم وصدرهم في الشمس ثلاثًا وحملهم على طلاق نسائهم وجمر أولادهم في البعوث وطاف بهم في أقطار البصرة وأحلفهم أن لا ينكحوا الحرائر وهم دار مالك بن مسمع وأخذ ما فيها فكان مما أخذ جارية ولدت له عمرو بن مصعب‏.‏

وأقام مصعب بالبصرة ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج إلى حرب عبد الملك بن مروان‏.‏

والمغيرة بضم الميم وبالغين والراء‏.‏

خالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين‏.‏

والجفرة بضم وفي هذه السنة مات عاصم بن عمر بن الخطاب وهو حد عمر بن عبد العزيز لأمه وولد قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين‏.‏

  ذكر مقتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي

في هذه السنة قتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي ونحن نذكر سبب الحرب بين قيس وتغلب حتى آل الأمر إلى قتل عمير‏.‏

وكان سبب ذلك أنه لما اقضى أمر مرج راهط وسار زفر الحارث الكلائي إلى قرقيسيا على ما ذكرناه وبايع عمير مروان بن الحكم وفي نفسه ما فيها بسبب قتل قيس لمارج فلما سير مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة والعراق كان عمير معه فلقوا سليمان بن صرد بعين الوردة وسار عبيد الله إلى قرقيسيا لقتال زفر فثبطه عمير وأشار بالخازر فمال عمير معه فانهزم جيش عبيد الله وقتل هو فأتى عمير قرقيسيا وصار مع زفر فجعلا يطلبان كلبًا واليمانية بم قتلوا من قيس وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما ويدلونهما‏.‏

وشغل عبد الملك عنهما بمصعب وتغلب عمير على نصيبين‏.‏

ثم إنه مل المقام بقرقيسيا فاستأمن إلى عبد الملك فأمنه ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمرًا حتى أسكرهم وتسلق في سلم من حبال وخرج من الحبس وعاد إلى الجزيرة ونزل على نهر البليخ بين حران والرقة فاجتمعت إليه قيس فكان يغير بهم على كلب واليمانية وكان من معه يستأوون جواري تغلب وسخرون مشايخهم من النصارى فهاج ذلك بينهم شرًا لم يبلغ الحرب وذلك قبل مسير عبد الملك إلى مصعب وزفر‏.‏

ثم إن عميرًا أغار على كلب ثم رجع فنزل على الخابور وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة‏.‏

وكانت بحيث نزل عمير امرأة من تميم ناكح في تغلب يقال لها أم دويل فأخذ غلام من بيني الحريش أصحاب عمير عددًا من غنمها فشكت إلى عمير فلم يمنع عنها فأخذوا الباقي فمانعهم قوم من تغلب فقتل رجل منهم يقال له مجاشع التغلبي وجاء دويل فشكت أمه إليه وكان فارسًا من فرسان تغلب فسار في قومه وجعل يذكرهم ما تصنع بهم قيس ويشكو إليهم ما أخذ من غنم أمه فاجتمع منهم جماعة وأمروا عليهم شعيث بن مليك التغلبي وأغاروا على بني الحريش ومعهم قوم من نمير فقتل فيهم التغلبيون واستاقوا ذودًا لامرأة منهم يقال لها أم الهيثم فمانعهم القيسيون فلم يقدروا على منعهم فقال الأخطل‏:‏ فإن نسألون بالحريش فإننا منينا بنوكٍ منهم وفجور غداة تحامتنا الحريش كأنها كلاب بدت أنيابها لهرير يوم مساكين ولما استحكم الشر بين قيس وتغلب وعلى قيس عمير وعلى تغلب شعيث غزا عمير بني تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالًا شديدًا وهي أول وقعة لهم فقتل من بني تغلب خمسمائة وقتل شعيث وكانت رجله قطعت فقاتل حتى قتل وهو يقول‏:‏ قد علمت قيس ونحن نعلم أن الفتى يقتل وهو أجذم يوم الثرثار الأول والثرثار نهر أصل منبعه شرقي مدينة سنجار وبالقرب من قرية يقال لها سرق وفرغ في دجلة بين الكحيل ورأس الأويل من عمل الفرج‏.‏

لما قتل بماكسين من ذكرنا استمدت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النمر بن قاسط وأتاها المشجر بن الحارث الشيباني وكان من ساداتهم بالجزيرة وأتاها عبيد الله بن زياد بن ظبيان منجدًا لهم على قيس فلذلك حقد عليه مصعب بن الزبير حتى قتل أخاه النابئ بن زياد واستنجد عمير تميمًا واسدًا فلم ينجده منهم أحد‏.‏

فالتقول على الثرثار وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر ويقال‏:‏ يزيد بن هوير التغلبي فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزمت قيس وقتلت تغلب ومن معها منهم مقتلهً عظيمةً وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم وقالت ليلى بنت الحارس التغلبيه وقيل هي للأخطل‏:‏ لما رأونا والصليب طالعا ومارس جيش وسمًا ناقعا والخيل لا تحمل إلا دارعا والبيض في أيماننا قواطعا خلوا لنا الثرثار والزارعا وحنةً طيسًا وكرمًا يانعا يوم الثرثار الثاني ثم إن قيسًا تجمعت واستمدت واستعدت وعليها عمير بن الحباب وأتاهم زفر بن الحارث من قرقيسيا وكان رئيس بني تغلب والنمر ومن معهما ابن هرير فالتقوا بالثرثار واقتتلوا أشد قتال اقتتله الناس وانهزمت بنو عامر وكانت على مجنبة قيس وصبرت سليم وأعصرت حتى انهزمت تغلب ومن معها وقتل ابنا عبد يشوع وغيرهما من أشراف تغلب فقال عمير بن الحباب‏:‏ فدًا لفوارس الثرثار نفسي وما جمعت من أهل ومال وولت عامر عنا فأجلت وحولي من ربيعة كالجبال

وقال زفر بن الحارث‏:‏ ألا من مبلع عني عميرًا رسالة ناصحٍ وعليه زاري أنترك حي ذي يمنٍ وكلبًا ونجعل جدنا بك في نزار كمعتمدٍ على إحدى يديه فخانته بوهنٍ وانكسار يوم الفدين وأغار عمير بن الحباب على الفدين وهي قرية على الخابور وقتل من بها من بني تغلب فهزمهم فقال نفيع بن صفار المحاربي‏:‏ لو تسأل الأرض الفضاء عليكم شهد الفدين بهلككم والصور والصور‏:‏ قرية من الفدين‏.‏

يوم السكير وهو على الخابور يسمى سكير العباس‏.‏

ثم اجتمعوا والتقوا بالسكير وعلى قيس عمير بن الحباب وعلى تغلب والنمر يزيد بن هوبر فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزمت تغلب والنمر وهرب عمير بن جندل وهو من فرسان تغلب

وأفلتنا يوم السكير ابن جندلٍ على سابحٍ عوج اللبان مثابر ونحن كررنا الخيل قدمًا شواذبًا دقاق الهوادي داميات الدوائر وقال ابن صفار‏:‏ صبحناكم بهن على سكيرٍ ولا قيتم هناك الأقورينا يوم المعارك والمعارك بين الحضر والعتيق من أرض الموصل اجتمعت تغلب بهذا المكان فالتقوا هم وقيس فاقتتلوا به فاشتد قتالهم فانهزمت تغلب وقال ابن صفار‏:‏ ولقد تركنا بالمعارك منكم والحضر والثرثار أجسادًا جثا فيقال‏:‏ إن يوم المعارك والحضر واحد هزموهم إلى الحضر وقتلوا منهم بشرًا كثيرًا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هما يومان كانا لقيس والله أعلم‏.‏

والتقوا أيضًا بلبى فوق تكريت من أرض الموصل فتناصفوا فقيس تقول‏:‏ كان الفضل لنا وتغلب تقول‏:‏ كان الفضل لنا‏.‏

  يوم الشرعبية

ثم التقوا بالشرعبية وعلى قيس عمير بن الحباب وعلى تغلب وألفافها ابن هرير فكان بينهم قتال شديد قتل يومئذٍ عمار بن المهزم السلمي وكان لتغلب على قيس قال الأخطل‏:‏ ولقد بكى الجحاف لما أوقعت بالشرعبية إذ رأى الأهوالا يعني أوقعت الخيل‏.‏

والشرعبية‏:‏ من بلاد تغلب‏.‏

والشرعبية أيضًا‏:‏ ببلاد منبج فبعضهم يقول‏:‏ إن هذه الوقعة كانت ببلاد منبج وذلك خطأ‏.‏

يوم البليخ واجتمعت تغلب وسارت إلى البليخ وهناك عمير في قيس والبليخ نهر بين حران والرقة فالتقوا وانهزمت تغلب وكثر القتل فيها وبقرت بطون النساء كما فعلوا يوم الثرثار فقال ابن صفار‏:‏ زرق الرماح ووقع كل مهندٍ زلزلن قلبك بالبليخ فزالا يوم الحشاك ومقتل عمير بن الحباب السلمي وابن هوبر التغلبي لما رأت تغلب إلحاح عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرتها وباديتها وساروا إلى الحشاك وهو تل قريب من الشرعبية وإلى جنبه براق ودلف إليه عمير في قيس ومعه زفر بن الحارث الكلائي وابنه الهذيل بن زفر وعلى تغلب ابن هوبر واقتتلوا عند تل الحشاك أشد قتال وأبرحه حتى جن عليهم الليل ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل ثم تحاجزوا‏.‏

وأصبحت تغلب في اليوم الثالث فتعاقدوا أن لا يفروا فلما رأى عمير حدهم وان نساءهم معهم قال لقيس‏:‏ يا قوم أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء فإنهم مستقتلون فإذا اطمأنوا وصاروا إلى سرحهم وجهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم‏.‏

فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي‏:‏ قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس ثم ملئ سحرك وجبنت‏!‏ ويقال‏:‏ إن عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري قال له ذلك وكان أتاه منجدًا فغضب عمير وقال‏:‏ كأني بك وقد حمس الوغى أول فار‏!‏ فنزل عمير وجعل يقاتل راجلًا وهو يقول‏:‏ أنا عمير وأبو المغلس قد أحبس القوم بضنك فاحبس وانهزم زفر يومئذ وهو اليوم الثالث فلحق بقرقيسيا وذلك أنه بلغه أن عبد الملك بن مروان قد عزم على الحركة غليه بقرقيسيا فبادر للتأهب وقيل‏:‏ إنه ادعى ذلك حين فر اعتذارًا وانهزمت قيس وركبت تغلب ومن معها أكتافهم وهم يقولون‏:‏ أن تعلمون أن تغلب تغلب وشد على عمير جميل بن قيس من بن زهير فتله وقيل‏:‏ بل تغاوى على عمير غلامان من بني وأصابت ابن هوبر يومئذٍ جراحة فلما انقضت الحرب أوصي بني تغلب بأن يولوا أمرهم مراد بن علقمة الزهيري‏.‏

وقيل‏:‏ خرج ابن هوبر في اليوم الثاني من أيامهم هذه الثلاثة وأوصى أن يولوا ظامرهم مرادًا ومات من ليلته وكان مراد رئيسهم في اليوم الثالث فعباهم على راياتهم وأمر كل بني أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم فلما أبصرهم عمير قال ما تقدم ذكره قال الشاعر‏:‏

أرقت بأثناء الفرات وشفني ** نوائح أبكاها قتيل ابن هوبر

ولم تظلمي أن نحت أم مغلسٍ قتيل النصارى في نوائح حسر

وقال بعض الشعراء ينكر قتل ابن هوبر عميرًا‏:‏

وإن عميرًا يوم لاقته تغلب ** قتيل جميل لا قتيل ابن هوبر

وكثر القتل يومئذٍ في بني سليم وغني خاصة وقتل من قيس أيضًا يومئذٍ بشر كثير وبعثت بنو تغلب رأس عمير بن الحباب إلى عبد الملك بن مروان بدمشق فأعطى الوفد وكساهم‏.‏

فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث واجتمع الناس عليه قال الأخطل‏:‏ بني أمية قد تناضلت دونكم أبناء قومٍ هم آووا وهم نصروا وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصًا فبايعوا لك قسرًا بعدما قهروا في أبيات كثيرة‏.‏

فلما قتل عمير بن الحباب وقف رجل على أسماء بن خارجة الفزاري بالكوفة فقال‏:‏ قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب‏.‏

فقال‏:‏ لا بأس إنما قتل الرجل في ديار القوم مقيلًا غير مدبر ثم قال‏:‏ يدي رهن على سليمٍ بغارةٍ تشيب لها أصداغ بكر بن وائل وتترك أولاد الفدوكس عالةً يتامى أيامى نهزة للقبائل يوم الكحيل وهو من أرض الموصل في جانب دجلة الغربي‏.‏

وسببه أنه لما قتل عمير بن الحباب السلمي أتى تميم بن عمير زفر بن الحارث فسأله أن يطلب له بثأره فامتنع فقال الهذيل بن زفر لأبيه‏:‏ والله لئن ظفرت بهم تغلب إن ذلك لعار عليك ولئن ظفروا بتغلب وقد خذلتهم إن ذلك لأشد‏.‏

فاستخلف زفر على قرقيسيا أخاه أوس ين الحارث وعزم على أن يغير على بني تغلب وغزوهم فوجه خيلًا إلى بني فدوكس بطن من تغلب فقتل رجالهم واستبيحت أموالهم ونساؤهم حتى لم يبق غير إمرأة واحدة استجارت فأجارها يزيد من حمران‏.‏

ووجه زفر بن الحارث ابنه الهذيل في جيش إلى بني كعب بن زهير فقتل فيهم قتلًا ذريعًا وبعث زفر أيضًا مسلم بن ربيعة العقيلي إلى قوم تغلب مجتمعين فأكثر فيهم القتل‏.‏

ثم قصد زفر لبني تغلب وقد اجتمعوا بالعقيق من أرض الموصل فلما أحست به ارتحلت تريد عبور دجلة فلما صارت بالكحيل لحقهم زفر في القيسية فاقتتلوا قتالًا شديدًا وترجل أصدار زفر أجمعون وفي زفر على بغل له فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم وغرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف فأتى فلهم لبى فوجه زفر ابنه الهذيل فأوقع بهم إلا من عبر فنجا وأسر زفر منهم مائتين فتقلهم صبرًا فقال زفر‏:‏ ألا ياعين بكي بانكساب وبكي عاصمًا وابن الحباب فإن تك تغلب قتلت عميرًا ورهطًا من غني في الحراب فقد أفنى بني جسم بن بكر ونمرهم فوارس من كلاب قتلنا منهم مائتين صبرًا وما عدلوا عمير بن الحباب وقال ابن صفار المحاربي‏:‏ أم ترح حبربنا تركت حبيبًا محالفها المذلة والصغار وقد كانوا أولي عزٍ فأضحوا وليس لهم من الذل انتصار وأسر القطامي التغلبي في يوم من أيامهم وأخذ ماله فقام زفر بأمره حتى رد عليه ماله ووصله فقال فيه‏:‏ إني وإن كان قومي ليس بينهم وبين قومك إلا ضربة الهادي مثن عليك بما أوليت من حسنٍ وقد تعرض لي من مقتلٍ بادي حبيح الذي في الشعر هو بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وهو في نسب بني تغلب‏.‏

  يوم البشر

لما استقر الأمر لعبد الملك واجتمع المسلمون عليه قدم عليه الأخطل الشاعر التغلبي وعنده الجحاف بن حكيم السلمي فقال له عبد الملك‏:‏ أتعرف هذا يا أخطل قال‏:‏ نعم هذا الذي أقول فيه‏:‏

ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ** بقتلى أصيبت من سليمٍ وعامر

وأنشد القصيدة حتى فرغ منها وكان الجحاف يأكل رطبًا فجعل النوى يتساقط من يده غيظًا وأجابه وقال‏:‏

بلى سوف نبكيهم بكل مهندٍ ** وننعى عميرًا بالرماح الشواجر

ثم قال‏:‏ يا ابن النصرانية ما كنت أظن أن تجترئ علي بمثل هذا‏!‏ فأرعد الأخطل من خوفه ثم قام إلى عبد الملك وأمسك ذيله وقال‏:‏ هذا مقام العائذ بك‏.‏

فقال‏:‏ أنا لك مجير‏.‏

ثم قام الجحاف ومشى وهو يجر ثوبه ولا يعقل به فتلطف لبعض كتاب الديوان حتى اختلق له عهدًا على صدقات تغلب وبكر بالجزيرة وقال لأصحابه‏:‏ إن أمير المؤمنين قد ولاني هذه الصدقات فمن أراد اللحاق بي فليفعل‏.‏

ثم سار حتى أتى رصافة هشامٍ فأعلم أصحابه ما كان من الأخطل إليه وأنه افتعل كتابًا وأنه ليس بوالٍ فمن كان احب أن يغسل عني العار وعن نفسي فليصحبني فإني قد أقسمت أن لا أغسل رأسي حتى أوقع في بني تغلب‏.‏

فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا له‏:‏ نموت بموتك ونحيا بحياتك‏.‏

فسار ليلته حتى صبح الرحوب وهو ماء لبني جشم بن بكر من تغلب فصادف عليه جماعةً منهم فقتل فيهم مقتلةً عظيمةً وأسر الأخطل وعليه عباءة وسخة فظنه الذي أسره عبدًا فسأله من هو فقال‏:‏ عبد‏.‏

فأطلقه فرمى بنفسه في جب فخاف أن يراه من يعرفه فيقتله‏.‏

فلما انصرف الجحاف خرج من الجب وأسرف الجحاف في القتل وبقر البطون عن الأجنة وفعل أمرًا عظيمًا فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده قوله‏:‏ فهرب الجحاف فطلبه عبد الملك فلحق ببلاد الروم وقال بعد وقعة البشر يخاطب الأخطل‏:‏ أبا مالكٍ هل لمتني أو حضضتني على القتل أم هل لامني كل لائم ألم أفنكم قتلًا وأجدع أنفكم بفتيان قيسٍ والسيوف الصوارم بكل فتى ينعى عميرًا بسيفه إذا اعتصمت أيمانهم بالقوائم فإن تطردوني تطردوني وقد جرى بي الور يومًا في دماء الأراقم نكحت بسيفي في زهيرٍ ومالكٍ نكاح اغتصابٍ لا نكاح دراهم في أبيات ولم يزل الجحاف يتردد في بلاد الروم من طرابزندة إلى قاليقلا وبعث إلى بطانة عبد الملك من قيس حتى أخذوا له الأمان فآمنه عبد الملك فقدم عليه فألزمه ديات من قتل وأخذ منه الكفلاء وسعى فيها فأتى الحجاج من الشام فطلب منه فقال له‏:‏ متى عهدتني خائنًا فقال له‏:‏ ولكنك سد قومك ولك عمالة واسعة‏.‏

فقال‏:‏ لقد ألهمت الصدق فأعطاه مائة ألف درهم وجمع الديات فأوصلها‏.‏

ثم تنسك بعد وصلح ومضى حاجًا فتعلق بأستار الكعبة وجعل ينادي‏:‏ اللهم اغفر لي وما أظن تفعل‏.‏

فسمعه محمد بن الحنفية فقال‏:‏ يا شيخ قنوطك شر من ذنبك‏.‏

وقيل‏:‏ إن سبب عوده كان أن الجحاف أكرمه ملك الروم وقربه وعرض عليه النصرانية ويعطيه ما شاء فقال‏:‏ ما أتيتك رغبةً عن الإسلام‏.‏

ولقي الروم تلك السنة عساكر المسلمين صائفةً فانهزم المسلمون وأخبروا عبد الملك أنهم هزمهم الجحاف فأرسل إليه عبد الملك يؤمنه فسار وقصد البشر وبه حي من بشر وقد لبس أكفانه وقال‏:‏ قد جئت إليكم أعطي القود من نفسي‏.‏

وأرد شبابهم قتله فنهاهم شيوخهم فعفوا عنه وحج فسمعه عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول‏:‏ اللهم اغفر لي وما أظنك تفعل‏.‏

فقال ابن عمر‏:‏ لو كنت الجحاف مازدت على هذا‏.‏

قال‏:‏ فأنا الجحاف‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وسبعين

  ذكر مقتل مصعب وملك عبد الملك العراق

في هذه السنة قتل مصعب بن الزبير في جمادى الآخرة واستولى عبد الملك بن مروان على العراق‏.‏

وسبب ذلك أن عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد بن العاص كما تقدم ذكره وضع السيف فقتل من خالفه فصفا له الشام‏.‏

فلما لم يبق له مخالف فيه أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق فاستشار أصحابه في ذلك فأشار يحيى بن الحكم بن أبي العاص عمه بأن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق وكان يقول عبد الملك‏:‏ من أراد صواب الرأي فليخالف يحيى‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن العام جدب وقد غزوت سنتين فلم تظفر فأقم عامك هذا‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ الشام بلد قليل المال ولا آمن نفاده وقد كتب كثير من أشراف العراق يدعونني إليهم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الرأي أن تقيم وتبعث بعض أهلك ونمده بالجنود‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له وإني يصير بالحرب شجاع بالسيف إن احتجت إليه ومصعب شجاع من بيت شجاعة ولكنه لا علم له بالحرب يحب الخفض ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي‏.‏

فلما عزم على المسير ودع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فبكت وبكى جواريها لبكائها فقال‏:‏ قاتل الله كثير عزة‏!‏ لكأنه يشاهدنا حين يقول‏:‏ إذا ما أراد الغزو لم يثن همه حصان عليها عقد درٍ يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت وبكى مما عناها قطينها وسار عبد الملك إلى العراق فلما بلغ مصعبًا مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلب وهو يقاتل الخوارج يستشيره وقيل‏:‏ بل أحضره عنده فقال لمصعب‏:‏ اعلم أن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدني عنك‏.‏فقال له مصعب‏:‏ إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج وهم قد بلغوا سوق الأهواز وأنا أكره وأنا أكره إذ سار عبد الملك إلي أن لا أسير إليه فاكفني هذا الثغر‏.‏

فعاد إليهم وسار مصعب إليا الكوفة ومعه الأحنف فتوفي بالكوفة وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فلما حضر عنده جعله على مقدمته وسار حتى نزل باجميرى وهي قريب من أوانا وهي من مسكن فعسكر هناك‏.‏

وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا بقرقيسيا وحصروا زفر بن الحارث الكلائي ثم صالحهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وسير زفر ابنه الهذيل مع عبد الملك وكان معه ثم لحق بمصعب بن الزبير‏.‏

فلما اصطلحا سار عبد الملك ومن معه فنزلوا بمسكن قريبًا من عسكر مصعب بين العسكرين ثلاثة فراسخ ويقال‏:‏ فرسخان وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه وبذل لجميعهم أصبهان طعمةً وقيل‏:‏ إن كل من كاتبه طلب منه إمرة أصبهان فقال‏:‏ أي شيء هذه أصبهان فكل منهم أخفى كتابه إلا إبراهيم بن الأشتر فإنه أحضر كتابه عند مصعب مختومًا فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق فقال له مصعب‏:‏ أتدري ما فيه قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ يعرض عليك كذا وكذا وإن هذا لما يرغب فيه‏.‏

فقال إبراهيم‏:‏ ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة ووالله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بأيأس منه مني ولقد كتب إلى أصحابك كلهم مثل الذي كتب إلي فأطعني واشرب أعناقهم‏.‏

قال‏:‏ إذًا لا يناصحني عشائرهم‏.‏

قال‏:‏ فأوقرهم حديدًا وابعث بهم إلى أبيض كسرى واحبسهم هناك ووكل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم‏.‏

فقال‏:‏ إني لفي شغل عن ذلك فرحم الله أبا بحر يعني الأحنف بن قيس إن كان ليحذرني غدر أهل العراق ويقول هم كالمومسة تريد كل يوم بعلًا وهم يريدون كل يوم أميرًا‏.‏

فلما رأى قيس بن الهيثم ما عزم أهل العراق عليه من الغدر لمصعب قال لهم‏:‏ ويحكم‏!‏ لا تدخلوا أهل الشام عليكم‏!‏ فو الله لئن يطعموا بعيشكم ليضيقن عليكم منازلكم والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة ولقد رأيتنا في الصوائف وإن زاد أحدنا على عدة أجمال وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه‏.‏

فلم يسمعوا منه فلما تدانى العسكران أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلًا من كلب وقال له‏:‏

أقرئ ابن أختك السلام وكانت أم مصعب كلبية وقل له يدع دعاءه إلى أخيه وأدع دعائي إلى نفسي ويجعل الأمر شورى‏.‏

فقال له مصعب‏:‏ قل له السيف بيننا‏.‏

فقدم عبد الملك أخاه محمدًا وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر فالتقيا فتناوش الفريقان فقتل صاحب لواء محمد وجعل مصعب يمد إبراهيم فأزال محمدًا عن موقفه فوجه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد فاشتد القتال فقتل مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة وهو من أصحاب مصعب وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم وقال‏:‏ قد قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه وإنا لله وإنا إليه راجعون‏!‏ فانهزم عتاب بالناس وكان قد كاتب عبد الملك وبايعه فلما انهزم صبر ابن الأشتر فقتل قتله عبيد ابن ميسرة مولى بني عذرة وحمل رأسه إلى عبد الملك‏.‏

وتقدم أهل الشام فقاتلهم مصعب وقال لقطن بن عبد الله الحارثي‏:‏ قدم خليلك أبا عثمان‏.‏

فقال‏:‏ أكره أن تقتل مذحج في غير شيء‏.‏

فقال لحجار ابن أبجر‏:‏ يا أبا أسيد قدم خيلك‏.‏

قال‏:‏ إلى هؤلاء الأنتان‏!‏ قال‏:‏ ما تتأخر إليه أنتن‏!‏ فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد مثل ذلك فقال‏:‏ ما فعل أحد هذا فأفعله‏.‏

فقال له‏:‏ أخبرني عن الحسين بن علي كيف صنع بامتناعه عن النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب فاخبره فقال‏:‏ قال عروة‏:‏ فعلمت أنه لا يبرح حتى يقتل‏.‏

ثم دنا محمد بن مروان من مصعب وناداه‏:‏ أنا ابن عمك محمد بن مروان فاقبل أمان أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ أمير المؤمنين بمكة يعني أخاه عبد الله بن الزبير‏.‏

قال‏:‏ فإن القوم خاذلوك‏.‏

فأبى ما عرض عليه‏.‏

فنادى محمد عيسى بن مصعب بن الزبير له فقال له مصعب‏:‏ انظر ما يريد منك‏.‏

فدنا منه فقال له‏:‏ إني لك ولأبيك ناصح ولكما الأمان‏.‏

فرجع إلى أبيه فأخبره فقال‏:‏ إني أظن القوم يفون لك فإن أحببت أن تأتيهم فافعل‏.‏

فقال‏:‏ لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك‏.‏

قال‏:‏ فاذهب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول‏.‏

فقال‏:‏ لا أخبر عنك قريشًا أبدًا ولكن يا أبه الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة أو الحق بأمير المؤمنين‏.‏

فقال مصعب‏:‏ لا تتحدث قريش أني فررت‏.‏

وقال لابنه عيسى‏:‏ تقدم إذن أحتسبك فتقدم ومعه ناس فقتل وقتلوا وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى فحمل عليه مصعب فقتله وشد على الناس فانفرجوا له وعاد ثم حمل ثانية فانفرجوا له وبذل له عبد الملك الأمان وقال‏:‏ إنه يعز علي أن تقتل فاقبل أماني ولك حكمك في المال والعمل‏.‏

فأبى وجعل يضارب‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ هذا والله كما قال القائل‏.‏

ومدجج كره الكماة نزاله لا ممعنًا هربًا ولا مستسلما ودخل مصعب رادقة فتحنط ورمى السرادق وخرج فقاتل فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيام فدعاه إلى المبارزة فقال له‏:‏ يا كلب اعزب‏!‏ مثلي يبارز مثلك‏!‏ وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه فرجع وعصب رأسه وترك الناس مصعبًا وخذلوه حتى بقى في سبعة أنفس وأثخن مصعب بالرمي وكثرت الجارحات فيه فعاد إلى عبيد الله بن زياد بن ظبيان فضربه مصعب فلم يصنع شيئًا لضعفه بكثرة الجراحات وضربه ابن ظبيان فقتله‏.‏

وقيل‏:‏ بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفي فحمل عليه فطعنه وقال‏:‏ يا لثارات المختار‏!‏ فصرعه وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك فألقاه بين يديه وأنشد‏:‏ نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا وليس علينا قتلهم بمحرم فلما رأى عبد الملك الرأس سجد‏.‏

قال ابن ظبيان‏:‏ قد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكي العرب وأرحت الناس منهما‏.‏

وقال عبد الملك‏:‏ لقد هممت أن لأقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس‏.‏

وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار فقال‏:‏ لم أقتله على طاعتك وإنما قتلته على قتل أخي النابئ بن زياد ولم يأخذ منها شيئًا وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل فأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا وقال ‏:‏ وكان سبب قتل النابئ أنه قطع الطريق هو ورجل من بني نمير فأحضرا عند مطرف بن سيدان الباهلي صاحب شرطة مصعب فقتل النابئ وضرب النميري وأطلقه فجمع عبيد الله جمعًا وقصد مطرفًا بعد أن عزله مصعب عن شرطته وولاه الأهواز وسار عبيد الله إلى المطرف فقتله فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب عبيد الله فسار حتى بلغ عسكر مكرم فنسب إليه ولم يلق عبيد الله كان قد لحق بعبيد الملك‏.‏

وقيل في قتله غير ذلك‏.‏

فلما أتي عبد الملك برأس مصعب نظر إليه وقال‏:‏ متى تغذو قرشية مثلك‏!‏ وكانا يتحدثان إلى حبى وهما بالمدينة فقيل لها‏:‏ قتل مصعب‏.‏

فقالت‏:‏ نعس قاتله‏!‏ فقيل‏:‏ قتله عبد الملك بن مروان‏.‏

فقالت‏:‏ و بأبي القاتل والمقتول‏!‏ ثم دعا عبد الملك بن مروان بن مروان جند العراق إلى بيعته فبايعوه وسار حتى دخل الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يومًا وخطب الناس بالكوفة فوعد المحسن وتوعد المسيء فقال‏:‏ إن الجامعة التي وضعت في عنق عمرو بن سعيد عندي ووالله أضعها في عنق رجل فأنزعها إلا صعدًا لا أفكها عنه فكًا فلا يبقين امرؤ إلا على نفسه ولا يولغن دمه والسلام‏.‏

ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه فحضرت قضاعة فقال لهم‏:‏ كيف سلمتم وأنتم قليل مع مضر فقال عبد الله بن يعلى النهدي‏:‏ نحن أعز منهم وأمنع بك وبمن معك منا‏.‏

ثم جاءت مذحج فقال‏:‏ ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئًا‏.‏

ثم جاءت جعفى فقال‏:‏ إيتوني بابن أختكم يعني يحيى بن سعيد وكانت أمه مذحجية فقالوا‏:‏ هو آمن فقال‏:‏ وتشترطون أيضًا‏!‏ فقال رجل منهم‏:‏ إنا ما نشترط جهلًا بحقك ولكنا نتسحب عليك تسحب الولد على الوالد‏.‏

فقال‏:‏ نعم أنتم الحي‏!‏ إن كنتم لفرسانًا في الجاهلية والإسلام‏.‏

ليحضر فهو آمن‏.‏

فأتوه به فبايعه‏.‏

ثم أتته عدوان فقدموا بين أيديهم رجلًا جميلًا وسيمًا فقال عبد الملك‏:‏ عذير الحي من عدوا ن كانوا حية الأرض بغى بعضهم بعضًا فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادا ت والموفون بالقرض ثم أقبل على ذلك الرجل الجميل فقال‏:‏ إيه‏!‏ فقال‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال معبد بن خالد الجدلي وكان خلفه‏:‏ ومنهم حكم يقضي فلا ينقض ما يقضي ومنهم من يجيز الحج بالسنة والفرض وهم مذ ولدوا شبوا بسر النسب المحض فأقبل عبد الملك على ذلك الجميل فقال‏:‏ من هو فقال‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال معبد من ورائه‏:‏ هو ذو الإصبع فأقبل على الجميل فقال‏:‏ لم تسمى ذا الإصبع فقال‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال معبد‏:‏ لأن حية نهشت إصبعه فقطعتها‏.‏

فأقبل على الجميل فقال‏:‏ ما كان اسمه قال‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال معبد‏:‏ حرثان بن الحارث‏.‏

فقال للجميل‏:‏ من أيكم هو قال‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال معبد‏:‏ من بني ناج‏.‏

ثم قال للجميل‏:‏ كم عطاؤك قال‏:‏ سبعمائة‏.‏

قال لمعبد‏:‏ كم عطاؤك قال‏:‏ ثلاثمائة‏.‏

فقال لكتابه‏:‏ اجعل معبدًا في سبعمائة وانقص من عطاء هذا أربعمائة ففعل‏.‏

ثم جاءت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث فأوصى به أخاه بشر بن مروان‏.‏

وأقبل داود بن قحذم في جمع كثير من بكر بن وائل عليهم الأقبية الداودية وبه سميت فجلس مع عبد الملك على سريره فأقبل عليه عبد الملك ثم نهض ونهضوا معه فقال عبد الملك‏:‏ هؤلاء الفساق لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة‏.‏

ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة ثم عزله فاستعمل أخاه بشر بن مروان ثم استعمل محمد بن عمير الهمداني على همذان ويزيد بن رويم على الري ولم يف لأحد شرط له أصبهان وقال‏:‏ علي بهؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام وأفسدوا العراق‏.‏

فقيل‏:‏ قد أجارهم رؤساء عشائرهم‏.‏

فقال‏:‏ وهل يجير علي أحد وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري قد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس ولجأ إليه أيضًا يحيى بن معيوف الهمداني ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وكان مع عبد الملك على ما نذكره وعمرو بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فآمنهم عبد الملك فظهروا‏.‏

فصنع عمرو بن حريث لعبد الملك طعامًا كثيرًا وأمر به إلى الخورنق وأذن إذنًا عامًا فدخل الناس وأخذوا مجالسهم فدخل عمرو بن حريث فأجلسه معه على سريره ثم جاءت الموائد فأكلوا فقال عبد الملك‏:‏ ما ألذ عيشنا لودام ولكنا كما قال الأول‏:‏ وكل جديدٍ يا أميم إلى بلىً وكل امرئٍ يصير يومًا إلى كان فلما فرغوا من الطعام طاف عبد الملك في القصر وعمرو بن حريث معه وهو يسأله‏:‏ لمن هذا البيت ومن بنى هذا البيت وعمرو يخبره فقال عبد الملك‏:‏ اعمل على مهلٍ فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان فكان ما قد كان لم يك إذ مضى وكأن ما هو كائن قد كان ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال‏:‏ أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر قيل‏:‏ لا استعمله على فارس‏.‏

قال‏:‏ أمعه المهلب قيل‏:‏ لا استعمله على الخوارج‏.‏

قال‏:‏ أمعه عباد بن الحصين قيل‏:‏ استخلفه على البصرة‏.‏

قال‏:‏ وأنا بخراسان‏.‏

خذيني فجريني جعار وأبشري بلحم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره ولما قتل مصعب بعث عبد الملك رأسه إلى الكوفة أو حمله معه إليها ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال‏:‏ رحمك الله‏!‏ أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقًا وأشدهم بأسًا وأسخاهم نفسًا‏.‏

ثم سيره إلى الشام فنصب بدمشق وأرادوا أن يطوفوا به في نواحي الشام فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان وهي أم يزيد بن عبد الملك فغسلته ودفنته وقالت‏:‏ أما رضييتم بما صنعتم حتى تطرفوا به في المدن هذا بغي‏.‏

وكان عمر مصعب حين قتل ستًا وثلاثين سنة‏.‏

قال يومًا عبد الملك لجلسائه‏:‏ من أشد الناس قالوا‏:‏ أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ اسلكوا غير هذا الطريق‏.‏

قالوا‏:‏ عمير بن الحباب‏.‏

قال‏:‏ قبح الله عميرًا‏!‏ لص ثوب ينازع عليه أعز عنده من نفسه ودينه‏.‏

قالوا‏:‏ فشبيب‏.‏

قال‏:‏ إن للحرورية لطريقًا‏.‏

قالوا‏:‏ فمن قال‏:‏ مصعب كان عنده عقيلتا قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة ثم هو أكثر الناس مالًا جعلت له الأمان وولاية العراق وعلم أني سأفي له للمودة التي كانت بيننا فحمى أنفًا وأبى وقاتل حتى قتل‏.‏

فقال رجل‏:‏ كان مصعب يشرب النبيذ‏.‏

قال‏:‏ كان ذلك قبل أن يطلب المروءة فأما مذ طلبها ذو علم أن الماء ينقص مروءته ما ذاقه‏.‏

قال الأقشر الأسدي‏:‏ ولو شاء أعطى الضيم من رام هضمه فعاش ملومًا في الرجال طرائقه ولكن مضى والبرق يبرق خاله يشاوره مرًا ومرًا يعانقه فولى كريمًا لم تنله مذمة ولم يك رغدًا تطيبه نمارقه وقال عرفجة بن شريك‏:‏ ما لابن مروان أعمى الله ناظره ولا أصاب رغيباتٍ ولا نفلا يرجو الفلاح ابن مروان وقد قتلت خيل ابن مروان حرًا مادًا بطلا يا ابن الحواري كم من نعمةٍ لكم لورام غيركم أمثالها شغلا حملتم فحملتم كل معضلةٍ إن الكريم إذا حملته حملا وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في إبراهيم بن الأشتر هذا الزبير بفتح الزاي وكسر الباء‏:‏ سأبكي وإن لم تبك فتيان مذحجٍ فتاها إذا الليل التمام تأوبا فتى لم يكن في مرة الحرب جاهلًا ولا بمطيعٍ في الوغى من تهيبا أبان أنوف الحي قحطان قتله وأنف نزارٍ قد أبان فأوعبا فمن يك أمسى خائنًا لأميره فما خان إبراهيم في الموت مصعبا أشهر فبلغ قتله الأزارقة قبل المهلب فصاحوا بأصحاب المهلب‏:‏ ما قولكم في مصعب قالوا‏:‏ أمير هدى وهو ولينا في الدنيا والآخرة ونحن أولياؤه‏.‏

قالوا‏:‏ فما قولكم في عبد الملك قالوا‏:‏ ذاك ابن اللعين نحن نبرأ إلى الله منه وهو أحل دمًا منكم‏.‏

قالوا‏:‏ فإن عبد الملك قتل مصعبًا وستجعلون غدًا عبد الملك إمامكم‏.‏

فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان فصاح بهم الخوارج‏:‏ يا أعداء الله‏!‏ ما تقولون في مصعب قالوا‏:‏ يا أعداء الله لا نخبركم‏.‏

وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم‏.‏

قالوا‏:‏ وما قولكم في عبد الملك قالوا‏:‏ خليفتنا‏.‏

ولم يجدوا بدًا إذ بايعوه أن يقولوا ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ يا أعداء الله‏!‏ أنتم بالأمس تبرأون منه في الدنيا والآخرة وهو اليوم إمامكم وقد قتل أميركم الذي كنتم تولونه‏!‏ فأيهما المهتدي وأيهما المبطل قالوا‏:‏ يا أعداء الله رضينا بذلك إذ كان يتولى أمرنا ونرتضي بهذا‏.‏

قالوا‏:‏ لا والله ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا‏.‏

وأما عبد الله بن الزبير فلما انتهى إليه قتل أخيه مصعب قام في الناس فخطبهم فقال‏:‏ الحمد الله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه وإن كان فردًا ولم يعزز من كان وليه الشيطان وإن كان الناس معه طرًا ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب

رحمه الله وأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله شهادة وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حممه عن المصيبة يرعوي بعدها ذوو الرأي الجميل إلى الصبر وكريم العزاء وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن فإن يقتل فمه‏!‏ والله ما نوت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص‏!‏ والله ما قتل رجل منهم في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام ولا نموت إلا قعصًا بالرماح وتحت ظلال السيوف ألا إنما الدنيا عارية من الملك العلي الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل لا آخذها أخذ البطر وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم‏.‏

حجار بن أبجر بفتح الحاء المهملة وتشديد الجيم وكنيته أبو أسيد بضم الهمزة وفتح السين‏.‏

وحبى بضم الحاء المهملة وبالباء الموحدة المشددة الممالة وآخره ياء مثناة من تحتها وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي‏.‏